الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

المأساة والعظمة: الجزء الأخير

••٠••●مواكب العرسان إلى جنة الرحمن●••٠••

وتقدم آل بيت الحسين..
تقدم أبناء الرسول نحو مصائرهم العظيمة..لم يعد الذي يضنيهم، الظمأ إلى الماء الذي حرمهم منه المجرمون.
بل الظمأ إلى الشهادة.. والشوق إلى الجنة!! لقد كانوا في لحظاتهم المجيدة تلك، يشمون عبير جدهم الرسول.. وجدتهم خديجة.. وعبير حمزة.. وجعفر.. وعلي.. وفاطمة.. فيدركون أنهم صاروا في الجنة على قرب ذراع، فينطلقون نحوها في هيام..!!
وكان أولهم انطلاقا علي بن الحسين.. فتى لم يجاوز التاسعة عشرة من عمره!!
انظروا!!
ها هوذا - في نضرة شبابه.. وريعان إهابه.. في روعة بأسه وشرف نفسه.. يتوسط حراب الأعداء وسيوفهم، وهو ينشد:
أنا علي بن الحسين بن علي
نحن ورب البيت، أولى بالنبي
تالله، لا يحكم فينا ابن الدعي
تماما، كما كان يصنع من قبل جده الإمام علي حين كان يقتحم المعارك في عنفوانه اللجب، وهو يزأر:
(أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات، كريه المنظرة
أوفيهموا بالصاع كيل السندرة
هاهوذا، ابن التاسعة عشرة، يعيد إلى الحياة مرة أخرى بطولات جده العظيم.
ذرية بعضها من بعض!!
ويمضي، يضرب ويضرب.. حتى تصيبه طعنة رمح، فيقع على الأرض، وقبل أن يتحامل على جراحه لينهض من جديد كانت عشرات السيوف الباغية قد مزقت جسده الغض الشريف!!
ويراه الحسين.. مجد الله الحسين - فيسرع نحوه.. ويسرع معه شباب بني هاشم..!!
وفي رباطة جأش تذهل كل حي، حمل البطل ابنه الحبيب، ثم سجاه على ذراعي واحد من بني عمومته، وأمره أن يذهب به إلى فسطاطه.
ولا تكاد الطاهرة البتول زينب بنت علي رضي الله عنها وأرضاها.. لا تكاد تبصر جثمان ابن أخيها حتى تعلو زفرات أساها.. أهذا الذي كان من دقائق معدودة، يملأ الأعين، شبابه، وبهاؤه، وسناؤه..؟؟
هنالك انكبت على الأشلاء الطاهرة الناضرة، تضمخها بدموعها وشجنها..
وأثر في البطل مشهد أخته، فسار إليها يسألها الصبر.. ويقودها في رفق إلى خبائها.
وعاد هو إلى ساحة القتال..
لم يكن هناك على أرض المعركة سوى أهل بيته..
أما أصحابه وأنصاره، فقد رحلوا جميعا شهداء ممجدين.!
ولقد استفتح آل البيت بفتاهم العظيم علي بن الحسين.
ومن بعده تقدموا جميعا كالصقور الكواسر..
* ها هم أولاء إخوته لأبيه:
عبيد الله بن علي بن أبي طالب.. وجعفر.. وعثمان.. ومحمد الأصغر.. وأبو بكر.. والعباس.. يقذفون بأنفسهم وسط الهول، وأخوهم العباس يهتف فيهم قائلا:
(تقدموا، حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله).
فيتقدمون إلى قلب الجيش المسعور بسيوفه العاوية، ورماحه الباغية.
وكلما لمحوا خطرا يقترب من أخيهم البطل الحسين تلقوه بأجسادهم حتى سقطوا جميعا صرعى.. بل قولوا: صعدوا جميعا شهداء..!!
وعلى ثراها تمددت أجسادهم الكريمة يسبقها جثمان العباس بن علي الذي كان لبهاء طلعته، وتألق شخصيته، يلقب به قمر قريش!!
* * *
 وتقدم أبناء الحسين وأبناء الحسن:
أبو البكر بن الحسين... وعبد الله بن الحسين.. والقاسم بن الحسن..
* كما تقدم أبناء جعفر بن علي بن أبي طالب:
عون.. ومحمد.. وعبد الله..
* وأبناء عقيل بن أبي طالب:
عبد الله الأكبر.. وعبد الله الأصغر.. وجعفر..
* وأبناء مسلم بن عقيل الذي قتله ابن زياد بالكوفة:
محمد.. وعبد الله..
* كما تقدم محمد بن أبي سعيد بن عقيل..
تقدموا جميعا في بطولة تتحدى نفسها!!
واندفع أصغرهم سنا - القاسم بن الحسن - يهز سيفه في الهواء الساخن، ثم يهوى به فوق الأعناق الضالة الظالمة، حتى نالته، سيوفهم فهوى كالنجم، ينادي: يا عماه..!!
ونسي الحسين ما حوله من هول، وانطلق كالصقر صوب قاتل ابن أخيه، حيث شد الليث وضربه بسيفه، فبتر يده الشقية ثم طرحه أرضا، حيث داسته خيل جيش ابن زياد، فهلك تحت حوافرها..
وانثنى البطل نحو ابن أخيه يضمه، ويشمه، ويتملى في جسده المثخن، رونق، الزهور..!!
ولأول مرة سالت عبرات الأسد، وقال يخاطب الجثمان المسجى بالمجد.
(عزيز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك.. أو يجيبك فلا ينفعك في يوم، كثر واتره.. وقل ناصره..)!!
ثم حمله بين ذراعيه، إلى حيث أرقده بجوار ابنه علي، ثم عاد لهول المعركة من جديد.!!
لك الله، أبا عبد الله!!
وهل اختارتك المقادير لهذا العبء الذي يدغدغ الجبال، إلا وأنت له كفؤ وبه جدير؟؟
ألا صبرا آل محمد.. فهذا دوركم في الحياة، وحظكم من الدنيا..
يا سادة الآخرة، ويا ملوك الجنة..!!
راح الأبرار يسقطون في الحومة أبطالا.. والحسين يصول هنا..ويقاتل هناك.. ودمه الزكي يتفجر من فمه الذي اخترمه سهم وهو يحاول أن يأخذ جرعة ماء..!!
ووقف وحيدا أمام أعدائه..
فقد رحل الأهل جميعا، بعد رحيل الأصحاب...
كلهم عانقوا الشهادة في سبيل الحق.
وأحاط به القتلة الذين سمروا في أماكنهم، زائغة أبصارهم.. واجفة قلوبهم.
لقد كانوا - على كثرة ما اقترفوا من جريمة وسفكوا من دم – يهولهم دم الحسين فيتفادى كل منهم وزر الإجهاز على حياته.
وهنا انبعث أشقاها شمر بن ذي الجوشن فصرخ فيهم، ليختطفوا رأس البطل: فاقتربوا منه.. لكنه رغم جراحه ووحدته ينقض عليهم بسيفه.. ويخرج من الفسطاط غلام صغير، هو عبد الله بن الحسن
فيلمح قاتلا يوجه سيفه نحو عمه، فيصيح في براءة الأطفال:
(يا ابن الخبيثة أتقتل عمي).!
فيناله، ابن الخبيثة بسيفه الجبان، فيسقط على الأرض دون آن، تصيب الضربة منه مقتلا، ويسارع إليه عمه فيحمله إلى مكانه مع عمته السيدة زينب التي جلست تستقبل الضحايا، وتبصر المصاير، في تفويض الله، ورضا بقضائه!!
يواجه البطل أعداءه في جولة أخيرة، فتقع ضربة سيف على رأسه الشريف فتدميه.. فيشده بعصابة، ويحمل سيفه والدم ينزف من كل جسمه.
والمجرمون يضربون.. ويضربون.. بيد أنهم لا يزالون يرهبون دمه، ويتجنبون مقاتلته!!
ومرة أخرى، تخرج السيدة زينب من خدرها، فترى أخاها وحيدا بين الوحوش، فتتقدم إلى حيث يسمعها عمر بن سعد قائد جيش ابن زياد، وتصيح به:
(يا عمر..
أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر)؟؟!
فيطرق ابن سعد خزيا وندامة، ويصرف وجهه عنها وقد تفجرت عيناه بالدموع.. لكنه لا يستطيع أن ينسلخ من الموقف الذميم الذي ورطه فيه هواه..
ويضرع البطل إلى أخته كي تعود إلى مكانها، ثم يصيح في القتلة:
(أعلى قتلي تجتمعون؟..
إني لأرجو الله أن يكرمني بهوانكم، ثم ينتقم لي من حيث لا تشعرون).
ويطير صواب شمر بن ذي الجوشن، فينادي فرسانه من جديد، ويأمرهم أن يقفوا من وراء مشاته ورماته، ليمنعوهم عن النكوص إلى وراء.
ثم يصرخ في الرماة متوعدا إياهم المصير، عندما يرجعون لابن زياد، ويهتاج كالمسعور طالبا رأس البطل..
ويتقدم من الحسين واحد فيضربه بسيفه الأثيم على معصم يسراه، فتطير كفه، ثم يتقدم ثان فيضربه بسيفه الظلوم على عاتقه، فيقع على الأرض.. ويحسبون أنه انتهى، فينصرفون عنه، لكنهم يفاجأون به ينهض من جديد متوكئا على سيفه، فيسارع إليه آخرون موجهين إليه الضربة الأخيرة..!!
ويتقدم شمر بن ذي الجوشن، رجس البشرية كلها، فيجتز رأس البطل.. ثم يحتفظ به ليحمله هدية إلى ابن زياد، ويزيد.. تماما، كما قدم من قبل رأس (يحيى بن زكريا) عليه السلام، هدية لبغي من بغايا بني إسرائيل..!!!
* * *
كان النهار قد لفظ آخر أنفاسه..
ومالت الشمس للغروب، مخلفة وراءها شفقا عجيبا في حمرته الزاهية، ووهجه المتألق..!!
ولقد امتد على طول الأفق، وكأنه بساط وضع ومهد لتعرج عليه إلى جنان الله أرواح الشهداء..!!
وعلى غير عادة الطقس والمناخ في ذلك الحين وفي تلك الأرض، دوت طلقات قوية صادعة كأصوات الرعود.
ولقد حسبها المجرمون نذيرا لهم.. ولكن لا، فهم أهون على الله من ذلك..
إنها هي السماء، كانت تطلق مدافعها تحية..!!
تحية إجلال، للمهمة التي أنجزها الشهداء..!!
وتحية استقبال للأرواح التي كانت قد بدأت رحلة خلودها.. حيث
تتلقى من يمين الرحمن ما أعده لها من مثوبة، ونعيم، وعطاء..!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق