الأحد، 18 ديسمبر 2011

المأساة والعظمة: الجزء الثالث

--------ــــــــــــــــ  أوشك القتال أن يبدأ..ــــــــــــــــــ--------
ولكن قبل أن تنقذف أول سهامه، وقع حادث عجيب..
أتذكرون الحر بن يزيد التميمي قائد الطليعة التي أرسلها ابن زياد من الكوفة.. والذي التقى بركب الحسين واضطره للنزول في كربلاء.؟؟
إنه لم يكد يرى القتال على وشْكِ البَدء، حتى أحس فداحة الجريمة التي ستلوثه، وبشاعة الوزر الذي سيحمله، وظلام المصير الذي سيكون له عند الله، فخرج بجواده من صفوف فرسانه، واقترب من قائد الجيش - عمر بن سعد - وصاح به:
- أمُقاتل أنت ذلك الرجل..؟
قال ابن سعد:
- نعم والله، قتالا أيسره أن تبتر الأيدي، وتُطَوَّح الرؤوس!!
قال الحر:
- أولستم تاركيه يرجع إلى حيث أتى، أو يضرب كما قال في الأرض العريضة..؟
قال ابن سعد:
- لو كان الأمر بيدي لفعلت.. ولكن ابن زياد يأبى ذلك..
فصاح (الحر) وهو يدفع جواده نحو صفوف الحسين (إذن، فقاتلني معه)..!!
ونزل من فوق جواده، يعانق الحسين ودموعه تتفجر من مآقيه، ويقول له: - (قد كان مني بالأمس ما كان. وقد استبان لي حقك، فجئتك أفتديك بنفسي، أفترى في ذلك توبة لي مما صنعت)..؟؟
وأجابه البطل، وهو يضمه إلى صدره النبيل:
(إنها خير توبة، فأبشر.. فأنت الحر في الدنيا.. وأنت الحر في الآخرة إن شاء الله)..!!
وكما صنع الحر بن يزيد صنع بطل آخر، هو يزيد الكندي.. لقد غادر مكانه في جيش ابن زياد، وبصق عليه، ثم انطلق يَعْدُو بجواده إلى جبهة الحسين العظيم..!!
والآن..أتبصرون ذلك السهم الذي انطلق يُمَزِّق الهواء في اتجاه الحسين وأصحابه؟؟
إنه السهم الذي قذفه - عمر بن سعد - قائد جيش ابن زياد معلنا بدء القتال..
وتلاه على الأثر، بروز صف من رجال ابن سعد يطلبون المبارزة.
ومن صفوف الأبطال خرج إليهم أكفاؤهم الأشداء..
هذا عبد الله بن عمر الكلبي.. مؤمن من الكوفة لم يكد يعلم باحتجاز الحسين عند كربلاء، حتى اصطحب زوجته معه وشد إليه الرحال.
ها هو ذا يوفي لله بيعه..
وها هوذا، يخرج إلى مبارزه، فيصرعه من فوره.
وكان استهلالا باهرا، أطار صواب الآخرين، فهجم عليه الشياطين المرقة حيث ضربه أحدهم بسيفه فطارت أصابع كفه في الهواء، لكنه انثنى على ضاربه فصرعه في لحظة..
وتكالب عليه آخرون، تنكروا حتى لشرف المبارزة وقواعدها، لاسيما حين رأوا أن جميع مبارزيهم صرعوا بأيدي الذين خرجوا إليهم من أنصار الحسين عليه السلام..
ولم يتركوا الرجل، إلا عندما أبصروا فريقا من أصحابه يقتربون منهم بسيوفهم المشرعة.. عندئذ ولوا عنه، وهو مثخن بجراحه.
واشرأبت زوجته من بعيد، فبصُرت به، وانطلقت تهرول إليه حاملة بيمناها حربة طويلة. حتى إذا بلغته راحت تحتضنه بين ذراعيها لينهض قائما وهي تقول له:
" فداك أبي وأمي..
قاتل دون الطيبين من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم)!!
لكنه يصيح بها، ويضرع إليها كي تعود إلى خِبائها، فإذا هي تُلَعْلِع بصوتها الواثق:
(لا، لن أعود.. ولن أدعك تذهب إلى الفردوس وحدك)..!!
ولكنه يزحف بجسده المُثخن، ويدفعها أمامه نحو الخيام.
فتستعصي عليه، وتستميت دون الرجوع.
ويلمح الحسين المشهد من بعيد فيناديها:
(جزيتم عن أهل بيتي خيرا..
ارجعي يرحمك الله، فليس عليكن قتال).
وآنئذ لا غير، تمتثل وتطيع، فإنها لا تستطيع لأمر ابن الرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا!!
ويستأنف عبد الله بن عمر الكلبي زحفه فوق أرض جاشت بالصراع، ضاربا بسيفه ذات اليمين وذات اليسار، حتى غاضت حياته تحت وطأة الهول الذي كان جسده قد تلقاه.!!
ومرة أخرى، تندفع إلى أرض القتال زوجته التي صممت على ألا يذهب قبلها. وألا يذهب دونها إلى الجنة. وراحت تبحث بين جثث الشهداء حتى وجدته، فجلست بجواره تُسَجيه بحنانها، وتضمه بكيانها، وتقبل الجراح التي رصعت جسده وهي تصيح: (هنيئا لك الجنة)..!!!
ثم ربضت إلى جواره، ويدها على مقبض سيفه، لتحرس جثمانه من الوحوش الذين كانوا يعودون إلى الشهداء، ليحتزوا رؤوسهم!!
لكن الشقي الزنيم - شمر بن ذي الجوشن - أبصرها، فأمر واحدا من شياطينه، غافَلها من الخلف وهشَّم رأسَها، وهكذا لم تحرم من صحبة زوجها إلى الفردوس الأعلى..!!
التحمت الجبهتان التحاما رهيبا.. ورأى جنود زياد كثرة القتلى الذين يسقطون منهم رغم كثرتهم الهائلة، فجُن جنونهم، وهجم فرسانهم في ضراوة..
وبرز لهم فرسان (الحسين) الذين لم يكونوا أكثر من اثنين وثلاثين فارسا، فدمروا هجومهم تدميرا، وجاوزوا الدفاع إلى الهجوم في سرعة ماحقة، وأحاطوا بفرسان ابن زياد، ثم مرقوا داخل صفوفهم يطوحون برؤوسهم كالذباب!!
وسقط في يد قائدهم عروة بن قيس فنادى عمر بن سعد من فوق صهوة جواده، كي يدركه بالرماة!! وأمر ابن سعد جيشه فتقدم بأجمعه، يتقدمه خمسمائة من الرماة..
وكبر الحسين تكبيرة هزت الأرض ونادت زلزالها، وانقذف يضرب بسيفه، فكأنه قدر، لا رادَّ لأمره.. ولا مهرب من حُكمه!!
كان يشد كالليث على غريم فيصرعه.. ثم يبصر آخر في طريقه بسيفه الغادر إلى بعض أصحابه، فينثني إليه كالصقر ويُرديه!!
وحلَّ روحُه الغلاب في أفئدة أصحابه، فاشتعل حماسهم، واتقد مَضاؤهم وامتلأت أفئدتهم المؤمنة عزما وشوقا، وراحوا يضربون ويقاتلون، في استبسال عظيم.
كانوا كلما قلَّ عددهم بوقوع الشهداء منهم، ازدادوا إقداما وقوة..
لكأنما كانت أرواح شهدائهم تستأنف بعد انطلاقها من أجسادها، نضالها وقتالها..!!!
لم يكن أصحاب الحسين يتعجلون النصر، فما أبعد النصر عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم وبمثل عددهم.
إنما كانوا يتعجلون الجنة، إذ لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير..!!
وركز رماة الأعداء ضرباتهم على الجياد التي يمتطيها فرسان الحسين فعقروها جميعا..
وهبط الفرسان إلى الأرض ليقاتلوا مع إخوانهم.
كان كل بطل من أصحاب الحسين يتكاثر عليه عشرات من جيش ابن زياد.
وهذه وحدها، ترينا كيف كانت ضراوة القتال وعظمة الاستشهاد!!
ورغم ما كان لجيش الباطل من تفوق، فقد كان الفزع من نصيبه وحده.
وليس هناك ما يصور هذه الحقيقة مثل إقدامهم على حرق المضارب والخيام التي كانت لأهل الحسين وأنصاره.
لقد أحرقوها، ليشغلوا بإطفاء نارها المندلعة تلك القلة الصامدة لقتالهم والمطوحة برؤوسهم.!!
واشتعلت الحرائق عالية، فنادى الإمام في ثبات عجيب (لا بأس.. اجعلوا الحريق وراء ظهوركم. فلا يستطيعوا اجتياز النار إليكم)..
ونجا فسطاط الإمام  من الحريق..
وفي خضم هذا الهول الذي شكله القتال الضاري الوبيل، وقف البطل يقلب وجهه في السماء!!
لقد كان ينتظر مَقْدَم عزيز لم يَخلِف قط موعده معه ذلكم هو الصلاة..!!
أجل.. لقد انتصف النهار، وجاء ميقات الظهر، وموعد صلاته.
وللصلاة في ميدان القتال طريقة خاصة.. وهكذا نادى الحسين لصلاة الظهر صلاة حرب وقتال!
هل رأى الناس شيئا كهذا، في جلاله، وجماله، وعظمته..؟
حتى الموت يَنُوشه وينوش أصحابه من كل جانب، لا يغفل عن واجب ربه، ولا عن فرائض دينه!!
ويفرغون من صلاتهم، ليواصلوا جهادهم، وقد بدأ النصف الثاني من النهار..
أي إعجاز كان هذا الذي حدث..؟؟
وكيف صمد اثنان وسبعون طيلة هذا الوقت لأربعة آلاف فارس، ورام.. وكيف ستظل بقيتهم صامدة حتى آخر النهار..؟؟
أو كلُّ هذا الثبات، يهبه الحق أتباعَه وأشياعَه..؟!
أجل، وأكثر من هذا يمنح الحق ويعطى..
* * * لقد أحاط الباقون من أصحاب الإمام الحسين به يقاتلون من حوله ويذودون عنه.. وكل أمانيهم أن تواتيهم مناياهم وهم بين يديه، أو عند قدميه..!!
* فهذا حنظلة بن سعد البشامي ينادي أعداء الحق:
(إني أخاف عليكم يوم التناد.. فإياكم وقتل الحسين، فقد خاب من افترى)..
ثم يثبت بين يديه كأنه جبل، لا تزحزحه عن مكانه عشرات السيوف والرماح التي اتخذته هدفا.. ويظل يقاتل حتى يقع شهيدا..!!
* وهذا سيف الله بن الحارس وأخوه مالك يقتربان من البطل، ويعانقانه، ثم يقولان له:
(موعدنا الجنة)!!
ويقاتلان معه ومن حوله حتى تدركهما الشهادة!!
*وهذا عبد الله بن عروة وأخوه عبد الرحمن يخوضان في صفوف الأعداء ويصليانهم سعيرا..
ويثقل جسداهما بالطعن وبالضرب والجراح، فيقعان على الأرض خائرة قواهما.. ثم لا تكاد أعينهم المجهدة تقع على البطل يقاتل وحده عشرات من الأعداء القساة حتى تنتفض فيهما من جديد عافية الأسود، ويتضرم بأسهما.. وينهضان من بين يديه في قتال مرير حتى يقع أجرهما على الله شهيدين عظيمين!!
* وهذا شوذب وعباس بن أبي شبيب ونافع بن هلال البجلي وسويد بن أبي المطاع وعشرات من إخوانهم المباركين، راحوا يقاتلون في جسارة وغبطة.. كلما سقط أحدهم جريحا نهض فوق جراحه، وسبح فوق دمائه حتى يعود فيقاتل.. ويقاتل في عزم شامخ وثبات مكين، حتى لحقوا جميعا بإخوانهم الذين سبقوهم أول النهار -زهير بن القين وعبد الله بن عمر الكلبي والحر بن يزيد ويزيد الكندي.. أولئك الأبطال الذين قاتل الواحد منهم وكأنه جيش وحده.. والذين أبلوا في المعركة بلاء يتعاظم كل وصف وكل إطراء..!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق