الأربعاء، 14 ديسمبر 2011

المأساة والعظمة: الجزء الثاني/ مواقف خالدة

نحن الآن مع اليوم التاسع من المحرم، وقد ولى نهاره ودَلِفَ ليل جديد!!
ولقد أخذ جيش ابن زياد يتحرك للوثوب..
ورأى الحسين تحركاتهم، وتذكر واجبا لا بد من أدائه قبل أن يبدأ القتال.
هنالك أرسل إلى قائدهم عمر بن سعد - طالبا إرجاء القتال إلى غد.. وأجابه ابن سعد إلى ما طلب.. ولعله ظن أن وراء هذه الرغبة في الإرجاء عزما على طلب التسليم وعلى بيعة يزيد!!
ترى، لماذا طلب البطل إرجاء القتال..؟؟
هل ليدبر خواطره من جديد حول موقفه؟
هل اقترب اليأس من عزمه، فأراد أن يفكر مع نفسه في البحث عن مخرج يُوَقِّيه وأصحابه ما ينتظرهم من هول..؟
كلا... لم يكن لشيء كهذا أي وجود في روع البطل، ولا في تفكيره.
فهو قد وطن نفسه على الموت من أولى ساعات المؤامرة التي بدأت مع طلائع جيش ابن زياد..
وهو لا يعرف خيارا بين أمرين، ثانيهما خذلان الحق وبيعة يزيد!!
إن أمامه طريقا واحدا، ليس لمثله أن يسلك في هذه القضية سواه..
ذلكم هو سبيل التضحية بالحياة، ولو أمكن، فبألف حياة..!!
إنما طلب إرجاء القتال إلى الغد، لأنه عظيم جد عظيم ليس لعظمة نفسه منتهى، وليس لنُبْل روحه حدود!!
انظروا .. عندما استبانت له نتيجة المعركة. أراد أن يدفع حياته زُلْفى لها وقربانا..!!
لم يشأ أن يدفع لسيوف البغي حياة أنصاره الخمسين، ومعهم الأشبال والرجال من أهله وأبنائه، بعد أن تغير الموقف بالنسبة لهم...
لقد خرجوا معه على حساب أن الكوفة في انتظارهم، ليبدأوا منها وبها مقاومة مشروعة، يَدْحَضُون بها ضلال حاكم الشام، ويدرأون بها عن الإسلام خُبْثَ بني أمية.
لكنهم فوجئوا بالكوفة تنتظرهم بوجه آخر كالح وعبوس..
فرُسُل الحسين صُرِعوا، واستُشهدوا..
والألوف التي أعطت بيعتها لمسلم بن عقيل، تبددت واختفت كالجرذان..!!
وبدلا من أن يجد البطل في استقباله كتائب الحق من شيعته وأنصاره، وجد عصابات البغي تنتظره بالغدر والمنايا..!!
إذن، الموقف قد تغير بالنسبة للذين معه من أهلٍ وأنصار..
وإن لم يكن قد تغير بالنسبة له، ولما وطن عليه إرادته، وعزمه، وضميره.
وهكذا طلب إرجاء القتال، ليجعل أهله وأصحابه في حل من كل التزاماتهم تجاهه.!!
وهكذا جمعهم في الليل، وقال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ".. أما بعد، فإني لا أعرف أصحابا خيرا من أصحابي..
ولا أهل بيت أَبرَّ، وأوصل من أهل بيتي.. فجزاكم الله خيرا، فقد بررتم وأعنتم..
وإنكم لتعلمون أن القوم لا يريدون غيري.. وإن يومي معهم غدا..!!
وإني قد أذنت لكم جميعا، فانطلقوا في غير حرج. ليس عليكم مني ذمام...
هذا هو الليل قد غشيكم، فانطلقوا في سواده قبل أن يطلع النهار، وانجوا بأنفسكم".
من لمثل هذا الموقف المعجز، مثل ابن علي رضي الله عنه وحفيد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟؟!
من، يا رجال..!!؟؟
وهو لم يقلها لأهله وصحبه استدرارا لعطفهم، فماذا يُغني عطفهم في هذا المقام؟؟
إنما كان يعني تماما كل كلمة قالها.. كان يعني تماما ألاَّ يُحَمِّلهم مسئولية الموقف الذي اختاره، والهول الذي قرر أن يواجهه في استبسال.!!
ترى، هل يتقبل الأهل والأنصار رأيه هذا، وتوجيهه؟ كلا...
ولماذا..؟؟
لأن العظمة، ولأن البطولة كانتا في ذلك اليوم على موعد مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولا، لتحققا بهم أروع مشاهدهما، وأسمى أمجادهما..!!!
من أجل ذلك، لم يكد البطل يفرغ من كلماته، حتى تحولوا جميعا إلى أسود تزأر بالكلمات، وتشرَقُ بالدموع!!
صاح أخوه لأبيه العباس بن علي: "معاذ الله والشهر الحرام.. وماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟؟
نقول: تركنا سيدنا وابن سيدنا غرضا للنبال، ودريئة للرماح، وحرزا للسباع.. وفررنا عنه رغبة في الحياة؟؟!! معاذ الله. معاذ الله.. بل نحيا بحياتك.. ونموت معك..!!".
وصاح بمثل ذلك بنو عقيل وبنو جعفر وتقدم ابنه علي بن الحسين -فتى لم تجاوز سنه التاسعة عشر-..!! وسأل أباه: (ألسنا على الحق يا أباه؟؟)
قال الحسين: (بلى، والذي أنفسنا بيده..)
فصاح فتاه العظيم: (إذن، والله لا نبالي)..!!
ومن أصحابه وأنصاره، قام زهير بن القين يزأر وينادي:
(والله، لوددت أن أقتل ثم أبعث.. ثم أقتل ثم أبعث..
هكذا ألف مرة، أكون فيها ردءا عن حياتك وحياة هؤلاء الفتيان من آل بيتك)..!!
وتلاه (مسلم بن عوسجة الأسدي):
(أنحن نتخلى عنك، ولم نعذر إلى الله في أداء حقك؟؟
أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي..!!
ولو لم يكن لي سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك)!!
وقام آخر.. وآخر.. وآخر..
هبوا جميعا يعطون أمجد بيعة في تاريخ التضحية والفداء، بيعة على موت محقق.. فليس هناك لما دون الموت أدنى احتمال!
لقد ارتفع الأبطال جميعا إلى مستوى الموقف المجيد، الذي سيجعلون منه درسا لأجيال الدنيا كلها في الولاء الباهر للحق، وفي التضحية الشاهقة من أجله.. وها هم أولاء، يعدون لمضاربهم وخيامهم.. يتهيأون للقاء الغد بالصلاة والابتهال وبشحذ سيوفهم، وبري سهامهم، وصقل رماحهم!!
ومن طريف ما حدث في ليلتهم تلك، أن نافع بن هلال البُجَلي رضي الله عنه وعنهم أجمعين، قضى شطر ليله في كتابة اسمه على سهام نبله، إمعانا في طلب المثوبة والأجر.. وإمعانا في السخرية من الخطر..وإمعانا في الترحيب بالموت..!
وطلع الصباح.. وأقبل اليوم المشهود.. العاشر من المحرم!!
بدأ البطل يومه المجيد بصلاة الفجر.. أمَّ فيها أهله وصحبه.
وطلعت الشمس على سبعين، أو اثنين وسبعين بطلا في جانب وأربعة آلاف ذئب في الجانب الآخر..
ووقف الحسين يُعبِّئ رجاله.. فجعل زهير بن القين على الميمنة.. وحبيب بن مظهر على الميسرة.. وأعطى الراية أخاه العباس بن علي.. وتقدم شباب آل البيت، ليأخذوا مكانهم في الصف الأول فدفعهم عنه الأنصار قائلين:
(معاذ الله أن تموتوا ونحن أحياء، نشهد مصارعكم. بل نحن أولا، ثم تجيئون على الأثر)..!!
وهكذا وقفوا في الصف الثاني وراء القائد والأنصار. وفي الجانب الآخر وقف -عمر بن سعد - يُعبِّئ جيشه، وينظم ميمنته وميسرته.
يا ويحهم.. ألا يخجلون؟؟!! أربعة آلاف، لاثنين وسبعين.؟؟!!
وفي سبيل ماذا..؟؟
في سبيل باطل يرونه رأي العين، وفي سبيل أكذوبة صغيرة اسمها - يزيد - وجريمة منكرة، اسمها - ابن زياد -.؟!
ومن عجب أنهم كما يحدثنا التاريخ، خرجوا لجريمتهم تلك بعد أن صلى بهم قائدهم صلاة الصبح..!! أصحيح أنهم صلوا، وقرأوا في آخر صلاتهم:
(اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد..؟!) إذن ما بالهم ينفلتون من صلاتهم ليحصدوا بسيوفهم الآثمة آل محمد..؟!
لكم كان نافع بن هلال البجلي صادقا وهو يقول لابن ذي الجوشن الشقي:
(والله لو كنت من المسلمين، لعَظُم عليك أن تلقى الله بدمائنا.. فالحمد لله الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه)..!!!
أجل، الحمد لله.. فتلك مزية ادخرها القدر للحسين وأصحابه - أن يجيء مصرعهم المقدر على أيدي شرار لا يقيم الله لهم وزنا في الدنيا ولا في الآخرة..
فلكم يُشق على الأنفس المؤمنة أن تجيء مناياها على أيدي قوم خيار!!
عندما قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تهلل وجهه حين عرف هوية قاتله.. وحمد الله كثيرا، إذ لم تجئه الضربة من بر تقي.. وجاءت من ذلك المجوسي الزنيم.!!
ومن الحظوظ الوافية للحسين وأصحابه، أن خصومهم في تلك المعركة كانوا أشرارا.. أشرارا من الرأس إلى القاع.. ولم يكن فيهم خَيِّر واحد، ولا بَرٌّ واحد يمكن أن يشكل وجوده بينهم أمارة احتجاج أو علامة استفهام..؟!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق