الأربعاء، 14 ديسمبر 2011

-----۩۩ المأساة والعظمة: الجزء الأول ۩۩ -----


وكان اليوم، غُرّة المحرم...
والعام، الواحد والستين للهجرة...
والمكان، كربلاء.. على مقربة من نهر الفرات..
وقبل أن نبلغ اليوم العاشر من المحرم.. يوم الواقعة الرهيبة، والمهيبة.. يوم الآلام، والمجد.. يوم الفاجعة، والبطولة.. يوم المأساة، والعظمة..
قبل أن نبلغ هذا اليوم، علينا أن نتابع الأحداث التي سبقته، وكانت جزءا من صميمه.
إن ابن زياد في الكوفة يعمل ليل نهار في إعداد ضربته الآثمة التي تلْهثُ وراءها روحه المظلمة المسعورة..!!
وها هو ذاك، يختار قواده للمعركة، ويحشد المقاتلين..
وحين يرى الناس يهربون من الانضمام لجيشه. يلجأ إلى طريقته في معالجة العصيان، فيجمع أهل الكوفة أمام قصره. ثم يأتي بأحد المضربين عن الاشتراك في جيشه فيأمر بضرب عنقه، ثم يلقى برأسه على الأرض أمام الناس الذين يفزعهم المشهد، فيقبلون على طاعته كارهين ومكرهين..!!
وتذكَّر ابن زياد أن لديه جيشا مجهَّزًا، قِوامه أربعة آلاف فارس، كان قد أعده تحت قيادة -عمر بن سعد- لمجابهة ثورة الدَّيلم في أرض هَمدان.
كما كان قد عيَّن - عمر - هذا واليا على الريّ.. فدعاه إليه وأمره أن يخرج بجيشه إلى كربلاء.
واعتذر عمر بن سعد، فرارًا من أن تتلوث نفسه ويداه بجريمة لا يطيقها ضمير به مُسْكَةٌ من رشاد..!!
لكن الطاغية هدده بحرمانه من الولاية التي كان يطمح إليها وبعزله عن الجيش كله، فضعفت مقاومة ابن سعد وغاب رُشده، وقَبِل القيام بالمهمة البشعة، وسار بجيشه إلى كربلاء.
وكان مستشار ابن زياد لهذه الحملة الباغية، مسْخٌ شائه الخَلق والخُلق، اسمه شِمْر بن ذي الجوشن.
رجل مدخول الإسلام، انشقّت عنه الأرض بغتة في الأيام الأولى لفتنة الخوارج الذين نَاصَبُوا الإمام عليًّا العداء.. فأدلى معهم بدَلوه، عاملا لحساب نفسه الخبيثة، أو لحساب قوة خفية شريرة.
ومن تلك الأيام، وهو يَكيد للإسلام، ويُخَرِّب في صفوفه متخفيا وراء ذلك القناع المشبوه -قناع انتمائه للخوارج وتسلله له بمبادئهم إلى أغراضه المنكرة وأغراض القوى التي يعمل لحسابها..!!
ولقد نفث في روع ابن زياد أن هذه فرصة عمره، إذا استطاع أن يجهز على (الإمام الحسين) ويقدم رأسه هدية لسيده يزيد..!!
* * * نحن الآن في اليوم الثاني من المحرم... وقد وافى كربلاء -عمر بن سعد - في جيشه المكون من أربعة آلاف فارس.
ولقد عسكر هناك على مقربة من معسكر الإمام الذي لا يزيد على اثنين وسبعين من أهله وأنصاره، وابتدأ عمر بن سعد مهمته باختيار أحد رجاله واسمه قرة بن سفيان الحنظلي، آمرا إياه أن يذهب إلى الحسين رضي الله عنه، فيسأله: لماذا جاء؟؟
وأجابه الإمام:
"إن أهل هذا المصر - يعني الكوفة - كتبوا إليَّ يذكرون أنهم لا إمام لهم، ويسألونني القدوم عليهم، فجئت إليهم.. وفي الطريق علمت نكوصهم، فأردت الرجوع، فمنعني الحر بن يزيد، وسار بي إلى هذا المكان"..
وفرح عمر بن سعد، بهذه الإجابة التي أثلجت صدره إذ رأى فيها بادرة لإمكان الوصول إلى حل سلمي ينجيه من خوض قتال يتمنى ألا يُطَوَّق عُنُقه بأوزاره الثقال..!!
فبادر بالكتابة إلى طاغية الكوفة، الذي أجابه على الفور بكتاب يقول فيه: "قد بلغني كتابك، فاعرض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع ومن معه فأخبرني وسيأتيك رأيي"..!
وعرض ابن سعد كتاب الطاغية على الإمام الحسين فكان جوابه:
"لا أجيب ابن زياد إلى ذلك أبدا. وإن يكن الموت فمرحبا به"..!!
ويرسل إلى أميره برد الحسين فيكتب ابن زياد إليه: "امنع الحسين وأصحابه الماء، وحُل بينهم وبينه حتى لا يذوقوا منه حَسْوَة كما فعلوا بالتقي: عثمان بن عفان..!!".
يا للفجَّار حين يتوقَّحون..!!
تُرى هل سأل ابن زياد نفسه: أين كان يوم مُنعَ عثمان -رضي الله عنه- الماء..؟؟
وأين كان الحسن والحسين وأبوهما الإمام..؟!
أما هو، فكان جيفةً تنتقل في مراتع الإثم..
وأما الإمام.. ومعذرة إلى الله عن هذه المقابلة التي نلجأ إليها مضطرين..
نقول: أما الإمام فقد كان يحمل قربة الماء على كاهله، ويخوض بها بين الثوار مقتحما صفوفهم، متحديا حصارهم، يذودهم. ويذودونه، ويدفعهم ويدفعونه، حتى سقطت عمامته من فوق رأسه، وحتى أنفذ الماء إلى الخليفة الظمآن!!
أما الحسين وأخوه الحسن فقد كانا هناك بأمر من أبيهما، يحرسان الخليفة ويذودان عنه عَوَادي الثوار.
ولقد جرحا، وسال منهما الدم.. ورغم ما بذلاه من طاقة وجهد، فإنهما لم يَنْجُوا بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه من لوم أبيهما الشديد، بل ولطمهما بيديه، وهو يصرخ فيهما: "لماذا لم تموتا دونه"..؟!
والآن، يزعم هذا الغرّ الكذب أنه يثأر لعثمان، ولا يتورع عن اتخاذ ذكراه وسيلة دنيئة يبرر بها وحشية وحرمان أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الأرض القائظة من شربة ماء..!!
يقول "عقبة بن سمعان" وهو أحد اثنين من أصحاب الحسين خلصا من المعركة: "صحبت الحسين من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق.. وسمعت جميع أحاديثه حتى يوم مقتله..
فوالله ما زاد على أن قال لهم: دعوني أرجع إلى البلد الذي أقبلت منه، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة، حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس.. فلم يفعلوا"!!
هو إذن، لم يعرض كما تزعم بعض الروايات الدخيلة أن يذهبوا به إلى يزيد فيضع يده في يده..
هذا تحريف واضح.. وإلا ففيم إذن كان امتناعه عن أن يقول بلسانه: بايعتُ يزيد، فينفضّ جيش ابن زياد، وينتهي كل شيء..؟!
لقد رفض الذهاب إلى الكوفة للقاء ابن زياد..
ثم رفض طلب ابن زياد، بأن يُبايع يزيد..
وها هو ذا الهول يحيط به وهو صامد، يرفض الإذعان لعصابة البغي والإثم في عزّة المتقين، وإباء الأكرمين..!!
وضاق صدر ابن زياد بصمود البطل، ففزع إلى مستشاره الزنيم شِمْر بن ذي الجوشن، فأشار عليه أن يقسو على - عمر بن سعد - في خطابه، ويأمره أن يجئ بالحسين ومن معه إلى الكوفة عنوة، فإن أبوا، قاتلهم حتى الموت..
ويلمح شمر، الممتلئ بقذارة النفس وخبث الطوية.. يلمح في ذلك الحوار الدائر بين الحسين وعمر بن سعد بادرة قد تُفضي إلى مهادنة أو تفاهُم - الأمر الذي لا يُشبع نَهَمَه الخَبيث إلى التقويض والتخريج اللذين يعمل لهما منذ زعم الإسلام وادعاه..!! هناك هداه تفكيره الخبيث إلى أن ينتقل بنفسه إلى أرض القتال، ليتولى إضرام، إذا هي لم تُضرم نفسها وليصل بالمعركة بعد شبوبها إلى الغرض الذي يريد.!!
وهكذا اقترح على ابن زياد أن يحمل كتابه بنفسه إلى قائد جيشه عمر بن سعد، ويبقى هناك عينا لابن زياد ورقيبا، ومقاتلا أيضا..
واشترك مع أميره الطاغية في صياغة كتابه إلى ابن سعد، ثم هَرْوَل به إلى كربلاء..
"من عبيد الله بن زياد أمير الكوفة والبصرة، إلى عمر بن سعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكُفّ عنه، ولا لتكون له عندي شفيعا.
ادْعُ الحسين إلى ما أمرتكَ، فإن نزل وأصحابه على الحكم مستسلمين، فابعث بهم إلي. وإن أبوا، فازحف عليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم.
وبعد أن يُقتل الحسين أوطِئ الخيل صدره وظهره.. فإن مضيت لأمرنا، جزيناك جزاء السّامع المطيع.. وإن أبيت فاعتزل جندنا.. وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر والسلام"..!!
لم يكد عمر بن سعد، يتلو خطاب أميره حتى أدرك ما وراءه من كيد ابن ذي الجوشن، فقال له: "لقد أفسدت علينا أمرا كنا نرجو صلاحه.. والله لن يستسلم الحسين أبدا"..
فأجابه شمر: "امض لأمر أميرك وقاتل، أو فَخَلِّ بيني وبين الجند"..
ومرة أخرى، غُلِبَ ابن سعد على دينه، واستسلم لأطماعه وهواه،فرضي أن يبقى قائدا لحملة رجيمة، وجيش ظلوم!!
وَضَحَتِ النوايا إذن، أمام الحسين!
إنهم يريدون إذلاله، أو يريدون حياته..
أما المذلَّة، فالمماتُ دونها!!
وأما حياته، فليس هو أول من يجود بها في سبيل الحق من آل بيته العظيم، ولن يكون آخر من يجود بالحياة منهم..
الصعب في الأمر، أنهم لا يريدون أن يقاتلوا قتال الشرفاء، بل ولا قتال الآدميين!!
إنهم لا يقنعون بمواجهته في أربعة آلاف فارس. بينما كل الذين معه من أهل وصحب، اثنان وسبعون لا غير..
أجل.. إنهم لا يقنعون بتفوقهم العددي الساحق، فيحولون في صغار ولؤم، بينه وبين الماء، وهم يرون من وراءه في الخيام من سيدات، وأطفال، ومرضى!!
ترى هل أسف على خروجه من مكة إلى حيث هو الآن.؟
إن المؤمنين لا يأسفون على خَطر، ولا يجزعون من قدر..
ولسوف يصبر على واجبه، ويُعانق مصيره بما عُرف عن بيته الكريم من رضا وثبات وولاء..
هكذا وقف ابن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. وقف ابن علي البطل، وفاطمة الزهراء الموقف اللائق به، والمقدور له..
كان يستطيع أن يُخادعهم، والحربُ خُدعة..
بل كان من حقه لو شاء أن يبايع بلسانه، حتى إذا عاد بأهله إلى مكة واطمأن على سلامتهم، خلى البيعة وألقى بها إلى التراب، وله من دينه في مثل ذلك رخصة سجلها القرآن في بعض آياته فقال:
(.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
ولكنه سليل بيت، ليس من طرازه سواه، وابن رجال لا يركبون الرّخص، بل يعانقون العزائم!!...
إن عاقبة المعركة لواضحة مقروءة.. فاثنان وسبعون، لن يَهزموا.. بل يُفلتوا من أربعة فارس ضربوا حول القلّة الصامدة أبشع حصار.. إنه لا أمل في النصر.
ولكن، أي نصر هذا الذي لا أمل فيه..؟ النصر العسكري في معركة غير متكافئة..؟؟
ليكن ذلك، فأين النصر الآخر، الأعظمُ، والأكرمُ، والأبقى..؟
النصر الذي يتحقق ويتمثل في بذل الحياة من أجل الواجب.. وفي إعطاء القدوة بروعة الثبات.. وفي إضاءة ضمير الحياة بجلال التضحية..؟!!
هذا النصر، هل فقد الحسين الأمل فيه؟؟ لا.. بل لقد تجسّدت فيه كل آماله وآمال الذين معه، ومن ثم تشبَّث وتشبثوا به في وله عظيم، وراح يقاتل ويقاتلون في سبيله على نحو يَجِلُّ عن النظير..!!
وإننا لنظلم يوم كربلاء ظلما كبيرا، حين نظنه مأساة لا غير..
وفاجعة لا أكثر.. وتتخذه مناسبة لاجترار الأحزان والآلام..
لا.. ثم لا، يا رجال!!
إنه مأساة وفاجعة إذا نظرنا إلى الشكل الخارجي للمعركة، فرأينا السفلة الأدعياء ينتصرون.. ورأينا الوحشية المجرمة تفتك بأبناء الرسول.
لكنَّ يوم كربلاء ليس مأساة وفاجعة، إذا نفذنا ببصائرنا إلى جوهره النضير، فرأينا عظمة الثبات، وروعة البطولة، وعزة الإيمان، وجلال التضحية، في مهرجان للحق، هيهات أن يكون له نظير..!!
وستكون لنا إن شاء الله وقفة معه هذا المعنى الجليل الخالد، أما الآن، فإن علينا أن نسارع إلى مكان المعركة الأليمة والعظيمة، فإن ساعاتها الحاسمة تقترب..!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق