الأربعاء، 21 ديسمبر 2011

المأساة والعظمة: الجزء الأخير

••٠••●مواكب العرسان إلى جنة الرحمن●••٠••

وتقدم آل بيت الحسين..
تقدم أبناء الرسول نحو مصائرهم العظيمة..لم يعد الذي يضنيهم، الظمأ إلى الماء الذي حرمهم منه المجرمون.
بل الظمأ إلى الشهادة.. والشوق إلى الجنة!! لقد كانوا في لحظاتهم المجيدة تلك، يشمون عبير جدهم الرسول.. وجدتهم خديجة.. وعبير حمزة.. وجعفر.. وعلي.. وفاطمة.. فيدركون أنهم صاروا في الجنة على قرب ذراع، فينطلقون نحوها في هيام..!!
وكان أولهم انطلاقا علي بن الحسين.. فتى لم يجاوز التاسعة عشرة من عمره!!
انظروا!!
ها هوذا - في نضرة شبابه.. وريعان إهابه.. في روعة بأسه وشرف نفسه.. يتوسط حراب الأعداء وسيوفهم، وهو ينشد:
أنا علي بن الحسين بن علي
نحن ورب البيت، أولى بالنبي
تالله، لا يحكم فينا ابن الدعي
تماما، كما كان يصنع من قبل جده الإمام علي حين كان يقتحم المعارك في عنفوانه اللجب، وهو يزأر:
(أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات، كريه المنظرة
أوفيهموا بالصاع كيل السندرة
هاهوذا، ابن التاسعة عشرة، يعيد إلى الحياة مرة أخرى بطولات جده العظيم.
ذرية بعضها من بعض!!
ويمضي، يضرب ويضرب.. حتى تصيبه طعنة رمح، فيقع على الأرض، وقبل أن يتحامل على جراحه لينهض من جديد كانت عشرات السيوف الباغية قد مزقت جسده الغض الشريف!!
ويراه الحسين.. مجد الله الحسين - فيسرع نحوه.. ويسرع معه شباب بني هاشم..!!
وفي رباطة جأش تذهل كل حي، حمل البطل ابنه الحبيب، ثم سجاه على ذراعي واحد من بني عمومته، وأمره أن يذهب به إلى فسطاطه.
ولا تكاد الطاهرة البتول زينب بنت علي رضي الله عنها وأرضاها.. لا تكاد تبصر جثمان ابن أخيها حتى تعلو زفرات أساها.. أهذا الذي كان من دقائق معدودة، يملأ الأعين، شبابه، وبهاؤه، وسناؤه..؟؟
هنالك انكبت على الأشلاء الطاهرة الناضرة، تضمخها بدموعها وشجنها..
وأثر في البطل مشهد أخته، فسار إليها يسألها الصبر.. ويقودها في رفق إلى خبائها.
وعاد هو إلى ساحة القتال..
لم يكن هناك على أرض المعركة سوى أهل بيته..
أما أصحابه وأنصاره، فقد رحلوا جميعا شهداء ممجدين.!
ولقد استفتح آل البيت بفتاهم العظيم علي بن الحسين.
ومن بعده تقدموا جميعا كالصقور الكواسر..
* ها هم أولاء إخوته لأبيه:
عبيد الله بن علي بن أبي طالب.. وجعفر.. وعثمان.. ومحمد الأصغر.. وأبو بكر.. والعباس.. يقذفون بأنفسهم وسط الهول، وأخوهم العباس يهتف فيهم قائلا:
(تقدموا، حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله).
فيتقدمون إلى قلب الجيش المسعور بسيوفه العاوية، ورماحه الباغية.
وكلما لمحوا خطرا يقترب من أخيهم البطل الحسين تلقوه بأجسادهم حتى سقطوا جميعا صرعى.. بل قولوا: صعدوا جميعا شهداء..!!
وعلى ثراها تمددت أجسادهم الكريمة يسبقها جثمان العباس بن علي الذي كان لبهاء طلعته، وتألق شخصيته، يلقب به قمر قريش!!
* * *
 وتقدم أبناء الحسين وأبناء الحسن:
أبو البكر بن الحسين... وعبد الله بن الحسين.. والقاسم بن الحسن..
* كما تقدم أبناء جعفر بن علي بن أبي طالب:
عون.. ومحمد.. وعبد الله..
* وأبناء عقيل بن أبي طالب:
عبد الله الأكبر.. وعبد الله الأصغر.. وجعفر..
* وأبناء مسلم بن عقيل الذي قتله ابن زياد بالكوفة:
محمد.. وعبد الله..
* كما تقدم محمد بن أبي سعيد بن عقيل..
تقدموا جميعا في بطولة تتحدى نفسها!!
واندفع أصغرهم سنا - القاسم بن الحسن - يهز سيفه في الهواء الساخن، ثم يهوى به فوق الأعناق الضالة الظالمة، حتى نالته، سيوفهم فهوى كالنجم، ينادي: يا عماه..!!
ونسي الحسين ما حوله من هول، وانطلق كالصقر صوب قاتل ابن أخيه، حيث شد الليث وضربه بسيفه، فبتر يده الشقية ثم طرحه أرضا، حيث داسته خيل جيش ابن زياد، فهلك تحت حوافرها..
وانثنى البطل نحو ابن أخيه يضمه، ويشمه، ويتملى في جسده المثخن، رونق، الزهور..!!
ولأول مرة سالت عبرات الأسد، وقال يخاطب الجثمان المسجى بالمجد.
(عزيز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك.. أو يجيبك فلا ينفعك في يوم، كثر واتره.. وقل ناصره..)!!
ثم حمله بين ذراعيه، إلى حيث أرقده بجوار ابنه علي، ثم عاد لهول المعركة من جديد.!!
لك الله، أبا عبد الله!!
وهل اختارتك المقادير لهذا العبء الذي يدغدغ الجبال، إلا وأنت له كفؤ وبه جدير؟؟
ألا صبرا آل محمد.. فهذا دوركم في الحياة، وحظكم من الدنيا..
يا سادة الآخرة، ويا ملوك الجنة..!!
راح الأبرار يسقطون في الحومة أبطالا.. والحسين يصول هنا..ويقاتل هناك.. ودمه الزكي يتفجر من فمه الذي اخترمه سهم وهو يحاول أن يأخذ جرعة ماء..!!
ووقف وحيدا أمام أعدائه..
فقد رحل الأهل جميعا، بعد رحيل الأصحاب...
كلهم عانقوا الشهادة في سبيل الحق.
وأحاط به القتلة الذين سمروا في أماكنهم، زائغة أبصارهم.. واجفة قلوبهم.
لقد كانوا - على كثرة ما اقترفوا من جريمة وسفكوا من دم – يهولهم دم الحسين فيتفادى كل منهم وزر الإجهاز على حياته.
وهنا انبعث أشقاها شمر بن ذي الجوشن فصرخ فيهم، ليختطفوا رأس البطل: فاقتربوا منه.. لكنه رغم جراحه ووحدته ينقض عليهم بسيفه.. ويخرج من الفسطاط غلام صغير، هو عبد الله بن الحسن
فيلمح قاتلا يوجه سيفه نحو عمه، فيصيح في براءة الأطفال:
(يا ابن الخبيثة أتقتل عمي).!
فيناله، ابن الخبيثة بسيفه الجبان، فيسقط على الأرض دون آن، تصيب الضربة منه مقتلا، ويسارع إليه عمه فيحمله إلى مكانه مع عمته السيدة زينب التي جلست تستقبل الضحايا، وتبصر المصاير، في تفويض الله، ورضا بقضائه!!
يواجه البطل أعداءه في جولة أخيرة، فتقع ضربة سيف على رأسه الشريف فتدميه.. فيشده بعصابة، ويحمل سيفه والدم ينزف من كل جسمه.
والمجرمون يضربون.. ويضربون.. بيد أنهم لا يزالون يرهبون دمه، ويتجنبون مقاتلته!!
ومرة أخرى، تخرج السيدة زينب من خدرها، فترى أخاها وحيدا بين الوحوش، فتتقدم إلى حيث يسمعها عمر بن سعد قائد جيش ابن زياد، وتصيح به:
(يا عمر..
أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر)؟؟!
فيطرق ابن سعد خزيا وندامة، ويصرف وجهه عنها وقد تفجرت عيناه بالدموع.. لكنه لا يستطيع أن ينسلخ من الموقف الذميم الذي ورطه فيه هواه..
ويضرع البطل إلى أخته كي تعود إلى مكانها، ثم يصيح في القتلة:
(أعلى قتلي تجتمعون؟..
إني لأرجو الله أن يكرمني بهوانكم، ثم ينتقم لي من حيث لا تشعرون).
ويطير صواب شمر بن ذي الجوشن، فينادي فرسانه من جديد، ويأمرهم أن يقفوا من وراء مشاته ورماته، ليمنعوهم عن النكوص إلى وراء.
ثم يصرخ في الرماة متوعدا إياهم المصير، عندما يرجعون لابن زياد، ويهتاج كالمسعور طالبا رأس البطل..
ويتقدم من الحسين واحد فيضربه بسيفه الأثيم على معصم يسراه، فتطير كفه، ثم يتقدم ثان فيضربه بسيفه الظلوم على عاتقه، فيقع على الأرض.. ويحسبون أنه انتهى، فينصرفون عنه، لكنهم يفاجأون به ينهض من جديد متوكئا على سيفه، فيسارع إليه آخرون موجهين إليه الضربة الأخيرة..!!
ويتقدم شمر بن ذي الجوشن، رجس البشرية كلها، فيجتز رأس البطل.. ثم يحتفظ به ليحمله هدية إلى ابن زياد، ويزيد.. تماما، كما قدم من قبل رأس (يحيى بن زكريا) عليه السلام، هدية لبغي من بغايا بني إسرائيل..!!!
* * *
كان النهار قد لفظ آخر أنفاسه..
ومالت الشمس للغروب، مخلفة وراءها شفقا عجيبا في حمرته الزاهية، ووهجه المتألق..!!
ولقد امتد على طول الأفق، وكأنه بساط وضع ومهد لتعرج عليه إلى جنان الله أرواح الشهداء..!!
وعلى غير عادة الطقس والمناخ في ذلك الحين وفي تلك الأرض، دوت طلقات قوية صادعة كأصوات الرعود.
ولقد حسبها المجرمون نذيرا لهم.. ولكن لا، فهم أهون على الله من ذلك..
إنها هي السماء، كانت تطلق مدافعها تحية..!!
تحية إجلال، للمهمة التي أنجزها الشهداء..!!
وتحية استقبال للأرواح التي كانت قد بدأت رحلة خلودها.. حيث
تتلقى من يمين الرحمن ما أعده لها من مثوبة، ونعيم، وعطاء..!!


الأحد، 18 ديسمبر 2011

المأساة والعظمة: الجزء الثالث

--------ــــــــــــــــ  أوشك القتال أن يبدأ..ــــــــــــــــــ--------
ولكن قبل أن تنقذف أول سهامه، وقع حادث عجيب..
أتذكرون الحر بن يزيد التميمي قائد الطليعة التي أرسلها ابن زياد من الكوفة.. والذي التقى بركب الحسين واضطره للنزول في كربلاء.؟؟
إنه لم يكد يرى القتال على وشْكِ البَدء، حتى أحس فداحة الجريمة التي ستلوثه، وبشاعة الوزر الذي سيحمله، وظلام المصير الذي سيكون له عند الله، فخرج بجواده من صفوف فرسانه، واقترب من قائد الجيش - عمر بن سعد - وصاح به:
- أمُقاتل أنت ذلك الرجل..؟
قال ابن سعد:
- نعم والله، قتالا أيسره أن تبتر الأيدي، وتُطَوَّح الرؤوس!!
قال الحر:
- أولستم تاركيه يرجع إلى حيث أتى، أو يضرب كما قال في الأرض العريضة..؟
قال ابن سعد:
- لو كان الأمر بيدي لفعلت.. ولكن ابن زياد يأبى ذلك..
فصاح (الحر) وهو يدفع جواده نحو صفوف الحسين (إذن، فقاتلني معه)..!!
ونزل من فوق جواده، يعانق الحسين ودموعه تتفجر من مآقيه، ويقول له: - (قد كان مني بالأمس ما كان. وقد استبان لي حقك، فجئتك أفتديك بنفسي، أفترى في ذلك توبة لي مما صنعت)..؟؟
وأجابه البطل، وهو يضمه إلى صدره النبيل:
(إنها خير توبة، فأبشر.. فأنت الحر في الدنيا.. وأنت الحر في الآخرة إن شاء الله)..!!
وكما صنع الحر بن يزيد صنع بطل آخر، هو يزيد الكندي.. لقد غادر مكانه في جيش ابن زياد، وبصق عليه، ثم انطلق يَعْدُو بجواده إلى جبهة الحسين العظيم..!!
والآن..أتبصرون ذلك السهم الذي انطلق يُمَزِّق الهواء في اتجاه الحسين وأصحابه؟؟
إنه السهم الذي قذفه - عمر بن سعد - قائد جيش ابن زياد معلنا بدء القتال..
وتلاه على الأثر، بروز صف من رجال ابن سعد يطلبون المبارزة.
ومن صفوف الأبطال خرج إليهم أكفاؤهم الأشداء..
هذا عبد الله بن عمر الكلبي.. مؤمن من الكوفة لم يكد يعلم باحتجاز الحسين عند كربلاء، حتى اصطحب زوجته معه وشد إليه الرحال.
ها هو ذا يوفي لله بيعه..
وها هوذا، يخرج إلى مبارزه، فيصرعه من فوره.
وكان استهلالا باهرا، أطار صواب الآخرين، فهجم عليه الشياطين المرقة حيث ضربه أحدهم بسيفه فطارت أصابع كفه في الهواء، لكنه انثنى على ضاربه فصرعه في لحظة..
وتكالب عليه آخرون، تنكروا حتى لشرف المبارزة وقواعدها، لاسيما حين رأوا أن جميع مبارزيهم صرعوا بأيدي الذين خرجوا إليهم من أنصار الحسين عليه السلام..
ولم يتركوا الرجل، إلا عندما أبصروا فريقا من أصحابه يقتربون منهم بسيوفهم المشرعة.. عندئذ ولوا عنه، وهو مثخن بجراحه.
واشرأبت زوجته من بعيد، فبصُرت به، وانطلقت تهرول إليه حاملة بيمناها حربة طويلة. حتى إذا بلغته راحت تحتضنه بين ذراعيها لينهض قائما وهي تقول له:
" فداك أبي وأمي..
قاتل دون الطيبين من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم)!!
لكنه يصيح بها، ويضرع إليها كي تعود إلى خِبائها، فإذا هي تُلَعْلِع بصوتها الواثق:
(لا، لن أعود.. ولن أدعك تذهب إلى الفردوس وحدك)..!!
ولكنه يزحف بجسده المُثخن، ويدفعها أمامه نحو الخيام.
فتستعصي عليه، وتستميت دون الرجوع.
ويلمح الحسين المشهد من بعيد فيناديها:
(جزيتم عن أهل بيتي خيرا..
ارجعي يرحمك الله، فليس عليكن قتال).
وآنئذ لا غير، تمتثل وتطيع، فإنها لا تستطيع لأمر ابن الرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا!!
ويستأنف عبد الله بن عمر الكلبي زحفه فوق أرض جاشت بالصراع، ضاربا بسيفه ذات اليمين وذات اليسار، حتى غاضت حياته تحت وطأة الهول الذي كان جسده قد تلقاه.!!
ومرة أخرى، تندفع إلى أرض القتال زوجته التي صممت على ألا يذهب قبلها. وألا يذهب دونها إلى الجنة. وراحت تبحث بين جثث الشهداء حتى وجدته، فجلست بجواره تُسَجيه بحنانها، وتضمه بكيانها، وتقبل الجراح التي رصعت جسده وهي تصيح: (هنيئا لك الجنة)..!!!
ثم ربضت إلى جواره، ويدها على مقبض سيفه، لتحرس جثمانه من الوحوش الذين كانوا يعودون إلى الشهداء، ليحتزوا رؤوسهم!!
لكن الشقي الزنيم - شمر بن ذي الجوشن - أبصرها، فأمر واحدا من شياطينه، غافَلها من الخلف وهشَّم رأسَها، وهكذا لم تحرم من صحبة زوجها إلى الفردوس الأعلى..!!
التحمت الجبهتان التحاما رهيبا.. ورأى جنود زياد كثرة القتلى الذين يسقطون منهم رغم كثرتهم الهائلة، فجُن جنونهم، وهجم فرسانهم في ضراوة..
وبرز لهم فرسان (الحسين) الذين لم يكونوا أكثر من اثنين وثلاثين فارسا، فدمروا هجومهم تدميرا، وجاوزوا الدفاع إلى الهجوم في سرعة ماحقة، وأحاطوا بفرسان ابن زياد، ثم مرقوا داخل صفوفهم يطوحون برؤوسهم كالذباب!!
وسقط في يد قائدهم عروة بن قيس فنادى عمر بن سعد من فوق صهوة جواده، كي يدركه بالرماة!! وأمر ابن سعد جيشه فتقدم بأجمعه، يتقدمه خمسمائة من الرماة..
وكبر الحسين تكبيرة هزت الأرض ونادت زلزالها، وانقذف يضرب بسيفه، فكأنه قدر، لا رادَّ لأمره.. ولا مهرب من حُكمه!!
كان يشد كالليث على غريم فيصرعه.. ثم يبصر آخر في طريقه بسيفه الغادر إلى بعض أصحابه، فينثني إليه كالصقر ويُرديه!!
وحلَّ روحُه الغلاب في أفئدة أصحابه، فاشتعل حماسهم، واتقد مَضاؤهم وامتلأت أفئدتهم المؤمنة عزما وشوقا، وراحوا يضربون ويقاتلون، في استبسال عظيم.
كانوا كلما قلَّ عددهم بوقوع الشهداء منهم، ازدادوا إقداما وقوة..
لكأنما كانت أرواح شهدائهم تستأنف بعد انطلاقها من أجسادها، نضالها وقتالها..!!!
لم يكن أصحاب الحسين يتعجلون النصر، فما أبعد النصر عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم وبمثل عددهم.
إنما كانوا يتعجلون الجنة، إذ لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير..!!
وركز رماة الأعداء ضرباتهم على الجياد التي يمتطيها فرسان الحسين فعقروها جميعا..
وهبط الفرسان إلى الأرض ليقاتلوا مع إخوانهم.
كان كل بطل من أصحاب الحسين يتكاثر عليه عشرات من جيش ابن زياد.
وهذه وحدها، ترينا كيف كانت ضراوة القتال وعظمة الاستشهاد!!
ورغم ما كان لجيش الباطل من تفوق، فقد كان الفزع من نصيبه وحده.
وليس هناك ما يصور هذه الحقيقة مثل إقدامهم على حرق المضارب والخيام التي كانت لأهل الحسين وأنصاره.
لقد أحرقوها، ليشغلوا بإطفاء نارها المندلعة تلك القلة الصامدة لقتالهم والمطوحة برؤوسهم.!!
واشتعلت الحرائق عالية، فنادى الإمام في ثبات عجيب (لا بأس.. اجعلوا الحريق وراء ظهوركم. فلا يستطيعوا اجتياز النار إليكم)..
ونجا فسطاط الإمام  من الحريق..
وفي خضم هذا الهول الذي شكله القتال الضاري الوبيل، وقف البطل يقلب وجهه في السماء!!
لقد كان ينتظر مَقْدَم عزيز لم يَخلِف قط موعده معه ذلكم هو الصلاة..!!
أجل.. لقد انتصف النهار، وجاء ميقات الظهر، وموعد صلاته.
وللصلاة في ميدان القتال طريقة خاصة.. وهكذا نادى الحسين لصلاة الظهر صلاة حرب وقتال!
هل رأى الناس شيئا كهذا، في جلاله، وجماله، وعظمته..؟
حتى الموت يَنُوشه وينوش أصحابه من كل جانب، لا يغفل عن واجب ربه، ولا عن فرائض دينه!!
ويفرغون من صلاتهم، ليواصلوا جهادهم، وقد بدأ النصف الثاني من النهار..
أي إعجاز كان هذا الذي حدث..؟؟
وكيف صمد اثنان وسبعون طيلة هذا الوقت لأربعة آلاف فارس، ورام.. وكيف ستظل بقيتهم صامدة حتى آخر النهار..؟؟
أو كلُّ هذا الثبات، يهبه الحق أتباعَه وأشياعَه..؟!
أجل، وأكثر من هذا يمنح الحق ويعطى..
* * * لقد أحاط الباقون من أصحاب الإمام الحسين به يقاتلون من حوله ويذودون عنه.. وكل أمانيهم أن تواتيهم مناياهم وهم بين يديه، أو عند قدميه..!!
* فهذا حنظلة بن سعد البشامي ينادي أعداء الحق:
(إني أخاف عليكم يوم التناد.. فإياكم وقتل الحسين، فقد خاب من افترى)..
ثم يثبت بين يديه كأنه جبل، لا تزحزحه عن مكانه عشرات السيوف والرماح التي اتخذته هدفا.. ويظل يقاتل حتى يقع شهيدا..!!
* وهذا سيف الله بن الحارس وأخوه مالك يقتربان من البطل، ويعانقانه، ثم يقولان له:
(موعدنا الجنة)!!
ويقاتلان معه ومن حوله حتى تدركهما الشهادة!!
*وهذا عبد الله بن عروة وأخوه عبد الرحمن يخوضان في صفوف الأعداء ويصليانهم سعيرا..
ويثقل جسداهما بالطعن وبالضرب والجراح، فيقعان على الأرض خائرة قواهما.. ثم لا تكاد أعينهم المجهدة تقع على البطل يقاتل وحده عشرات من الأعداء القساة حتى تنتفض فيهما من جديد عافية الأسود، ويتضرم بأسهما.. وينهضان من بين يديه في قتال مرير حتى يقع أجرهما على الله شهيدين عظيمين!!
* وهذا شوذب وعباس بن أبي شبيب ونافع بن هلال البجلي وسويد بن أبي المطاع وعشرات من إخوانهم المباركين، راحوا يقاتلون في جسارة وغبطة.. كلما سقط أحدهم جريحا نهض فوق جراحه، وسبح فوق دمائه حتى يعود فيقاتل.. ويقاتل في عزم شامخ وثبات مكين، حتى لحقوا جميعا بإخوانهم الذين سبقوهم أول النهار -زهير بن القين وعبد الله بن عمر الكلبي والحر بن يزيد ويزيد الكندي.. أولئك الأبطال الذين قاتل الواحد منهم وكأنه جيش وحده.. والذين أبلوا في المعركة بلاء يتعاظم كل وصف وكل إطراء..!!

الأربعاء، 14 ديسمبر 2011

المأساة والعظمة: الجزء الثاني/ مواقف خالدة

نحن الآن مع اليوم التاسع من المحرم، وقد ولى نهاره ودَلِفَ ليل جديد!!
ولقد أخذ جيش ابن زياد يتحرك للوثوب..
ورأى الحسين تحركاتهم، وتذكر واجبا لا بد من أدائه قبل أن يبدأ القتال.
هنالك أرسل إلى قائدهم عمر بن سعد - طالبا إرجاء القتال إلى غد.. وأجابه ابن سعد إلى ما طلب.. ولعله ظن أن وراء هذه الرغبة في الإرجاء عزما على طلب التسليم وعلى بيعة يزيد!!
ترى، لماذا طلب البطل إرجاء القتال..؟؟
هل ليدبر خواطره من جديد حول موقفه؟
هل اقترب اليأس من عزمه، فأراد أن يفكر مع نفسه في البحث عن مخرج يُوَقِّيه وأصحابه ما ينتظرهم من هول..؟
كلا... لم يكن لشيء كهذا أي وجود في روع البطل، ولا في تفكيره.
فهو قد وطن نفسه على الموت من أولى ساعات المؤامرة التي بدأت مع طلائع جيش ابن زياد..
وهو لا يعرف خيارا بين أمرين، ثانيهما خذلان الحق وبيعة يزيد!!
إن أمامه طريقا واحدا، ليس لمثله أن يسلك في هذه القضية سواه..
ذلكم هو سبيل التضحية بالحياة، ولو أمكن، فبألف حياة..!!
إنما طلب إرجاء القتال إلى الغد، لأنه عظيم جد عظيم ليس لعظمة نفسه منتهى، وليس لنُبْل روحه حدود!!
انظروا .. عندما استبانت له نتيجة المعركة. أراد أن يدفع حياته زُلْفى لها وقربانا..!!
لم يشأ أن يدفع لسيوف البغي حياة أنصاره الخمسين، ومعهم الأشبال والرجال من أهله وأبنائه، بعد أن تغير الموقف بالنسبة لهم...
لقد خرجوا معه على حساب أن الكوفة في انتظارهم، ليبدأوا منها وبها مقاومة مشروعة، يَدْحَضُون بها ضلال حاكم الشام، ويدرأون بها عن الإسلام خُبْثَ بني أمية.
لكنهم فوجئوا بالكوفة تنتظرهم بوجه آخر كالح وعبوس..
فرُسُل الحسين صُرِعوا، واستُشهدوا..
والألوف التي أعطت بيعتها لمسلم بن عقيل، تبددت واختفت كالجرذان..!!
وبدلا من أن يجد البطل في استقباله كتائب الحق من شيعته وأنصاره، وجد عصابات البغي تنتظره بالغدر والمنايا..!!
إذن، الموقف قد تغير بالنسبة للذين معه من أهلٍ وأنصار..
وإن لم يكن قد تغير بالنسبة له، ولما وطن عليه إرادته، وعزمه، وضميره.
وهكذا طلب إرجاء القتال، ليجعل أهله وأصحابه في حل من كل التزاماتهم تجاهه.!!
وهكذا جمعهم في الليل، وقال لهم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ".. أما بعد، فإني لا أعرف أصحابا خيرا من أصحابي..
ولا أهل بيت أَبرَّ، وأوصل من أهل بيتي.. فجزاكم الله خيرا، فقد بررتم وأعنتم..
وإنكم لتعلمون أن القوم لا يريدون غيري.. وإن يومي معهم غدا..!!
وإني قد أذنت لكم جميعا، فانطلقوا في غير حرج. ليس عليكم مني ذمام...
هذا هو الليل قد غشيكم، فانطلقوا في سواده قبل أن يطلع النهار، وانجوا بأنفسكم".
من لمثل هذا الموقف المعجز، مثل ابن علي رضي الله عنه وحفيد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟؟!
من، يا رجال..!!؟؟
وهو لم يقلها لأهله وصحبه استدرارا لعطفهم، فماذا يُغني عطفهم في هذا المقام؟؟
إنما كان يعني تماما كل كلمة قالها.. كان يعني تماما ألاَّ يُحَمِّلهم مسئولية الموقف الذي اختاره، والهول الذي قرر أن يواجهه في استبسال.!!
ترى، هل يتقبل الأهل والأنصار رأيه هذا، وتوجيهه؟ كلا...
ولماذا..؟؟
لأن العظمة، ولأن البطولة كانتا في ذلك اليوم على موعد مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولا، لتحققا بهم أروع مشاهدهما، وأسمى أمجادهما..!!!
من أجل ذلك، لم يكد البطل يفرغ من كلماته، حتى تحولوا جميعا إلى أسود تزأر بالكلمات، وتشرَقُ بالدموع!!
صاح أخوه لأبيه العباس بن علي: "معاذ الله والشهر الحرام.. وماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟؟
نقول: تركنا سيدنا وابن سيدنا غرضا للنبال، ودريئة للرماح، وحرزا للسباع.. وفررنا عنه رغبة في الحياة؟؟!! معاذ الله. معاذ الله.. بل نحيا بحياتك.. ونموت معك..!!".
وصاح بمثل ذلك بنو عقيل وبنو جعفر وتقدم ابنه علي بن الحسين -فتى لم تجاوز سنه التاسعة عشر-..!! وسأل أباه: (ألسنا على الحق يا أباه؟؟)
قال الحسين: (بلى، والذي أنفسنا بيده..)
فصاح فتاه العظيم: (إذن، والله لا نبالي)..!!
ومن أصحابه وأنصاره، قام زهير بن القين يزأر وينادي:
(والله، لوددت أن أقتل ثم أبعث.. ثم أقتل ثم أبعث..
هكذا ألف مرة، أكون فيها ردءا عن حياتك وحياة هؤلاء الفتيان من آل بيتك)..!!
وتلاه (مسلم بن عوسجة الأسدي):
(أنحن نتخلى عنك، ولم نعذر إلى الله في أداء حقك؟؟
أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي..!!
ولو لم يكن لي سلاح، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك)!!
وقام آخر.. وآخر.. وآخر..
هبوا جميعا يعطون أمجد بيعة في تاريخ التضحية والفداء، بيعة على موت محقق.. فليس هناك لما دون الموت أدنى احتمال!
لقد ارتفع الأبطال جميعا إلى مستوى الموقف المجيد، الذي سيجعلون منه درسا لأجيال الدنيا كلها في الولاء الباهر للحق، وفي التضحية الشاهقة من أجله.. وها هم أولاء، يعدون لمضاربهم وخيامهم.. يتهيأون للقاء الغد بالصلاة والابتهال وبشحذ سيوفهم، وبري سهامهم، وصقل رماحهم!!
ومن طريف ما حدث في ليلتهم تلك، أن نافع بن هلال البُجَلي رضي الله عنه وعنهم أجمعين، قضى شطر ليله في كتابة اسمه على سهام نبله، إمعانا في طلب المثوبة والأجر.. وإمعانا في السخرية من الخطر..وإمعانا في الترحيب بالموت..!
وطلع الصباح.. وأقبل اليوم المشهود.. العاشر من المحرم!!
بدأ البطل يومه المجيد بصلاة الفجر.. أمَّ فيها أهله وصحبه.
وطلعت الشمس على سبعين، أو اثنين وسبعين بطلا في جانب وأربعة آلاف ذئب في الجانب الآخر..
ووقف الحسين يُعبِّئ رجاله.. فجعل زهير بن القين على الميمنة.. وحبيب بن مظهر على الميسرة.. وأعطى الراية أخاه العباس بن علي.. وتقدم شباب آل البيت، ليأخذوا مكانهم في الصف الأول فدفعهم عنه الأنصار قائلين:
(معاذ الله أن تموتوا ونحن أحياء، نشهد مصارعكم. بل نحن أولا، ثم تجيئون على الأثر)..!!
وهكذا وقفوا في الصف الثاني وراء القائد والأنصار. وفي الجانب الآخر وقف -عمر بن سعد - يُعبِّئ جيشه، وينظم ميمنته وميسرته.
يا ويحهم.. ألا يخجلون؟؟!! أربعة آلاف، لاثنين وسبعين.؟؟!!
وفي سبيل ماذا..؟؟
في سبيل باطل يرونه رأي العين، وفي سبيل أكذوبة صغيرة اسمها - يزيد - وجريمة منكرة، اسمها - ابن زياد -.؟!
ومن عجب أنهم كما يحدثنا التاريخ، خرجوا لجريمتهم تلك بعد أن صلى بهم قائدهم صلاة الصبح..!! أصحيح أنهم صلوا، وقرأوا في آخر صلاتهم:
(اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد..؟!) إذن ما بالهم ينفلتون من صلاتهم ليحصدوا بسيوفهم الآثمة آل محمد..؟!
لكم كان نافع بن هلال البجلي صادقا وهو يقول لابن ذي الجوشن الشقي:
(والله لو كنت من المسلمين، لعَظُم عليك أن تلقى الله بدمائنا.. فالحمد لله الذي جعل منايانا على أيدي شرار خلقه)..!!!
أجل، الحمد لله.. فتلك مزية ادخرها القدر للحسين وأصحابه - أن يجيء مصرعهم المقدر على أيدي شرار لا يقيم الله لهم وزنا في الدنيا ولا في الآخرة..
فلكم يُشق على الأنفس المؤمنة أن تجيء مناياها على أيدي قوم خيار!!
عندما قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تهلل وجهه حين عرف هوية قاتله.. وحمد الله كثيرا، إذ لم تجئه الضربة من بر تقي.. وجاءت من ذلك المجوسي الزنيم.!!
ومن الحظوظ الوافية للحسين وأصحابه، أن خصومهم في تلك المعركة كانوا أشرارا.. أشرارا من الرأس إلى القاع.. ولم يكن فيهم خَيِّر واحد، ولا بَرٌّ واحد يمكن أن يشكل وجوده بينهم أمارة احتجاج أو علامة استفهام..؟!!

-----۩۩ المأساة والعظمة: الجزء الأول ۩۩ -----


وكان اليوم، غُرّة المحرم...
والعام، الواحد والستين للهجرة...
والمكان، كربلاء.. على مقربة من نهر الفرات..
وقبل أن نبلغ اليوم العاشر من المحرم.. يوم الواقعة الرهيبة، والمهيبة.. يوم الآلام، والمجد.. يوم الفاجعة، والبطولة.. يوم المأساة، والعظمة..
قبل أن نبلغ هذا اليوم، علينا أن نتابع الأحداث التي سبقته، وكانت جزءا من صميمه.
إن ابن زياد في الكوفة يعمل ليل نهار في إعداد ضربته الآثمة التي تلْهثُ وراءها روحه المظلمة المسعورة..!!
وها هو ذاك، يختار قواده للمعركة، ويحشد المقاتلين..
وحين يرى الناس يهربون من الانضمام لجيشه. يلجأ إلى طريقته في معالجة العصيان، فيجمع أهل الكوفة أمام قصره. ثم يأتي بأحد المضربين عن الاشتراك في جيشه فيأمر بضرب عنقه، ثم يلقى برأسه على الأرض أمام الناس الذين يفزعهم المشهد، فيقبلون على طاعته كارهين ومكرهين..!!
وتذكَّر ابن زياد أن لديه جيشا مجهَّزًا، قِوامه أربعة آلاف فارس، كان قد أعده تحت قيادة -عمر بن سعد- لمجابهة ثورة الدَّيلم في أرض هَمدان.
كما كان قد عيَّن - عمر - هذا واليا على الريّ.. فدعاه إليه وأمره أن يخرج بجيشه إلى كربلاء.
واعتذر عمر بن سعد، فرارًا من أن تتلوث نفسه ويداه بجريمة لا يطيقها ضمير به مُسْكَةٌ من رشاد..!!
لكن الطاغية هدده بحرمانه من الولاية التي كان يطمح إليها وبعزله عن الجيش كله، فضعفت مقاومة ابن سعد وغاب رُشده، وقَبِل القيام بالمهمة البشعة، وسار بجيشه إلى كربلاء.
وكان مستشار ابن زياد لهذه الحملة الباغية، مسْخٌ شائه الخَلق والخُلق، اسمه شِمْر بن ذي الجوشن.
رجل مدخول الإسلام، انشقّت عنه الأرض بغتة في الأيام الأولى لفتنة الخوارج الذين نَاصَبُوا الإمام عليًّا العداء.. فأدلى معهم بدَلوه، عاملا لحساب نفسه الخبيثة، أو لحساب قوة خفية شريرة.
ومن تلك الأيام، وهو يَكيد للإسلام، ويُخَرِّب في صفوفه متخفيا وراء ذلك القناع المشبوه -قناع انتمائه للخوارج وتسلله له بمبادئهم إلى أغراضه المنكرة وأغراض القوى التي يعمل لحسابها..!!
ولقد نفث في روع ابن زياد أن هذه فرصة عمره، إذا استطاع أن يجهز على (الإمام الحسين) ويقدم رأسه هدية لسيده يزيد..!!
* * * نحن الآن في اليوم الثاني من المحرم... وقد وافى كربلاء -عمر بن سعد - في جيشه المكون من أربعة آلاف فارس.
ولقد عسكر هناك على مقربة من معسكر الإمام الذي لا يزيد على اثنين وسبعين من أهله وأنصاره، وابتدأ عمر بن سعد مهمته باختيار أحد رجاله واسمه قرة بن سفيان الحنظلي، آمرا إياه أن يذهب إلى الحسين رضي الله عنه، فيسأله: لماذا جاء؟؟
وأجابه الإمام:
"إن أهل هذا المصر - يعني الكوفة - كتبوا إليَّ يذكرون أنهم لا إمام لهم، ويسألونني القدوم عليهم، فجئت إليهم.. وفي الطريق علمت نكوصهم، فأردت الرجوع، فمنعني الحر بن يزيد، وسار بي إلى هذا المكان"..
وفرح عمر بن سعد، بهذه الإجابة التي أثلجت صدره إذ رأى فيها بادرة لإمكان الوصول إلى حل سلمي ينجيه من خوض قتال يتمنى ألا يُطَوَّق عُنُقه بأوزاره الثقال..!!
فبادر بالكتابة إلى طاغية الكوفة، الذي أجابه على الفور بكتاب يقول فيه: "قد بلغني كتابك، فاعرض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع ومن معه فأخبرني وسيأتيك رأيي"..!
وعرض ابن سعد كتاب الطاغية على الإمام الحسين فكان جوابه:
"لا أجيب ابن زياد إلى ذلك أبدا. وإن يكن الموت فمرحبا به"..!!
ويرسل إلى أميره برد الحسين فيكتب ابن زياد إليه: "امنع الحسين وأصحابه الماء، وحُل بينهم وبينه حتى لا يذوقوا منه حَسْوَة كما فعلوا بالتقي: عثمان بن عفان..!!".
يا للفجَّار حين يتوقَّحون..!!
تُرى هل سأل ابن زياد نفسه: أين كان يوم مُنعَ عثمان -رضي الله عنه- الماء..؟؟
وأين كان الحسن والحسين وأبوهما الإمام..؟!
أما هو، فكان جيفةً تنتقل في مراتع الإثم..
وأما الإمام.. ومعذرة إلى الله عن هذه المقابلة التي نلجأ إليها مضطرين..
نقول: أما الإمام فقد كان يحمل قربة الماء على كاهله، ويخوض بها بين الثوار مقتحما صفوفهم، متحديا حصارهم، يذودهم. ويذودونه، ويدفعهم ويدفعونه، حتى سقطت عمامته من فوق رأسه، وحتى أنفذ الماء إلى الخليفة الظمآن!!
أما الحسين وأخوه الحسن فقد كانا هناك بأمر من أبيهما، يحرسان الخليفة ويذودان عنه عَوَادي الثوار.
ولقد جرحا، وسال منهما الدم.. ورغم ما بذلاه من طاقة وجهد، فإنهما لم يَنْجُوا بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه من لوم أبيهما الشديد، بل ولطمهما بيديه، وهو يصرخ فيهما: "لماذا لم تموتا دونه"..؟!
والآن، يزعم هذا الغرّ الكذب أنه يثأر لعثمان، ولا يتورع عن اتخاذ ذكراه وسيلة دنيئة يبرر بها وحشية وحرمان أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الأرض القائظة من شربة ماء..!!
يقول "عقبة بن سمعان" وهو أحد اثنين من أصحاب الحسين خلصا من المعركة: "صحبت الحسين من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق.. وسمعت جميع أحاديثه حتى يوم مقتله..
فوالله ما زاد على أن قال لهم: دعوني أرجع إلى البلد الذي أقبلت منه، أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة، حتى ننظر ما يصير إليه أمر الناس.. فلم يفعلوا"!!
هو إذن، لم يعرض كما تزعم بعض الروايات الدخيلة أن يذهبوا به إلى يزيد فيضع يده في يده..
هذا تحريف واضح.. وإلا ففيم إذن كان امتناعه عن أن يقول بلسانه: بايعتُ يزيد، فينفضّ جيش ابن زياد، وينتهي كل شيء..؟!
لقد رفض الذهاب إلى الكوفة للقاء ابن زياد..
ثم رفض طلب ابن زياد، بأن يُبايع يزيد..
وها هو ذا الهول يحيط به وهو صامد، يرفض الإذعان لعصابة البغي والإثم في عزّة المتقين، وإباء الأكرمين..!!
وضاق صدر ابن زياد بصمود البطل، ففزع إلى مستشاره الزنيم شِمْر بن ذي الجوشن، فأشار عليه أن يقسو على - عمر بن سعد - في خطابه، ويأمره أن يجئ بالحسين ومن معه إلى الكوفة عنوة، فإن أبوا، قاتلهم حتى الموت..
ويلمح شمر، الممتلئ بقذارة النفس وخبث الطوية.. يلمح في ذلك الحوار الدائر بين الحسين وعمر بن سعد بادرة قد تُفضي إلى مهادنة أو تفاهُم - الأمر الذي لا يُشبع نَهَمَه الخَبيث إلى التقويض والتخريج اللذين يعمل لهما منذ زعم الإسلام وادعاه..!! هناك هداه تفكيره الخبيث إلى أن ينتقل بنفسه إلى أرض القتال، ليتولى إضرام، إذا هي لم تُضرم نفسها وليصل بالمعركة بعد شبوبها إلى الغرض الذي يريد.!!
وهكذا اقترح على ابن زياد أن يحمل كتابه بنفسه إلى قائد جيشه عمر بن سعد، ويبقى هناك عينا لابن زياد ورقيبا، ومقاتلا أيضا..
واشترك مع أميره الطاغية في صياغة كتابه إلى ابن سعد، ثم هَرْوَل به إلى كربلاء..
"من عبيد الله بن زياد أمير الكوفة والبصرة، إلى عمر بن سعد، فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكُفّ عنه، ولا لتكون له عندي شفيعا.
ادْعُ الحسين إلى ما أمرتكَ، فإن نزل وأصحابه على الحكم مستسلمين، فابعث بهم إلي. وإن أبوا، فازحف عليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم.
وبعد أن يُقتل الحسين أوطِئ الخيل صدره وظهره.. فإن مضيت لأمرنا، جزيناك جزاء السّامع المطيع.. وإن أبيت فاعتزل جندنا.. وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر والسلام"..!!
لم يكد عمر بن سعد، يتلو خطاب أميره حتى أدرك ما وراءه من كيد ابن ذي الجوشن، فقال له: "لقد أفسدت علينا أمرا كنا نرجو صلاحه.. والله لن يستسلم الحسين أبدا"..
فأجابه شمر: "امض لأمر أميرك وقاتل، أو فَخَلِّ بيني وبين الجند"..
ومرة أخرى، غُلِبَ ابن سعد على دينه، واستسلم لأطماعه وهواه،فرضي أن يبقى قائدا لحملة رجيمة، وجيش ظلوم!!
وَضَحَتِ النوايا إذن، أمام الحسين!
إنهم يريدون إذلاله، أو يريدون حياته..
أما المذلَّة، فالمماتُ دونها!!
وأما حياته، فليس هو أول من يجود بها في سبيل الحق من آل بيته العظيم، ولن يكون آخر من يجود بالحياة منهم..
الصعب في الأمر، أنهم لا يريدون أن يقاتلوا قتال الشرفاء، بل ولا قتال الآدميين!!
إنهم لا يقنعون بمواجهته في أربعة آلاف فارس. بينما كل الذين معه من أهل وصحب، اثنان وسبعون لا غير..
أجل.. إنهم لا يقنعون بتفوقهم العددي الساحق، فيحولون في صغار ولؤم، بينه وبين الماء، وهم يرون من وراءه في الخيام من سيدات، وأطفال، ومرضى!!
ترى هل أسف على خروجه من مكة إلى حيث هو الآن.؟
إن المؤمنين لا يأسفون على خَطر، ولا يجزعون من قدر..
ولسوف يصبر على واجبه، ويُعانق مصيره بما عُرف عن بيته الكريم من رضا وثبات وولاء..
هكذا وقف ابن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.. وقف ابن علي البطل، وفاطمة الزهراء الموقف اللائق به، والمقدور له..
كان يستطيع أن يُخادعهم، والحربُ خُدعة..
بل كان من حقه لو شاء أن يبايع بلسانه، حتى إذا عاد بأهله إلى مكة واطمأن على سلامتهم، خلى البيعة وألقى بها إلى التراب، وله من دينه في مثل ذلك رخصة سجلها القرآن في بعض آياته فقال:
(.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
ولكنه سليل بيت، ليس من طرازه سواه، وابن رجال لا يركبون الرّخص، بل يعانقون العزائم!!...
إن عاقبة المعركة لواضحة مقروءة.. فاثنان وسبعون، لن يَهزموا.. بل يُفلتوا من أربعة فارس ضربوا حول القلّة الصامدة أبشع حصار.. إنه لا أمل في النصر.
ولكن، أي نصر هذا الذي لا أمل فيه..؟ النصر العسكري في معركة غير متكافئة..؟؟
ليكن ذلك، فأين النصر الآخر، الأعظمُ، والأكرمُ، والأبقى..؟
النصر الذي يتحقق ويتمثل في بذل الحياة من أجل الواجب.. وفي إعطاء القدوة بروعة الثبات.. وفي إضاءة ضمير الحياة بجلال التضحية..؟!!
هذا النصر، هل فقد الحسين الأمل فيه؟؟ لا.. بل لقد تجسّدت فيه كل آماله وآمال الذين معه، ومن ثم تشبَّث وتشبثوا به في وله عظيم، وراح يقاتل ويقاتلون في سبيله على نحو يَجِلُّ عن النظير..!!
وإننا لنظلم يوم كربلاء ظلما كبيرا، حين نظنه مأساة لا غير..
وفاجعة لا أكثر.. وتتخذه مناسبة لاجترار الأحزان والآلام..
لا.. ثم لا، يا رجال!!
إنه مأساة وفاجعة إذا نظرنا إلى الشكل الخارجي للمعركة، فرأينا السفلة الأدعياء ينتصرون.. ورأينا الوحشية المجرمة تفتك بأبناء الرسول.
لكنَّ يوم كربلاء ليس مأساة وفاجعة، إذا نفذنا ببصائرنا إلى جوهره النضير، فرأينا عظمة الثبات، وروعة البطولة، وعزة الإيمان، وجلال التضحية، في مهرجان للحق، هيهات أن يكون له نظير..!!
وستكون لنا إن شاء الله وقفة معه هذا المعنى الجليل الخالد، أما الآن، فإن علينا أن نسارع إلى مكان المعركة الأليمة والعظيمة، فإن ساعاتها الحاسمة تقترب..!!

*** شمع آل محمد الإمام الحسين الشهيد رضي الله عنه ***


شمع آل محمد المجرد من العلائق سيد زمانه، أبو عبد الله الإمام الشهيد رضي الله عنه
كان من الأولياء المحققين وقبلة أهل البلاء، وقتيل صحراء كربلاء.
وجميع أهل الطريقة متفقون على صحة حاله لأنه كان متابعا للحق ما دام الحق ظاهرا، فلما
فُقد الحق شهر سيفه، ولم يهدأ حتى جعل روحه العزيزة فداء الشهادة لله عز وجل.
وله كلام لطيف في طريقة الحق، ورموز كثيرة ومعاملات طيبة. يروى أنه قال:"أشفق الإخوان عليك دينك". لأن نجاة المرء تكون في متابعة الدين، وهلاكه في مخالفته، فالرجل العاقل هو الذي يكون عند أمر المشفقين، ويدرك أنهم يشفقون عليه، ولا يسير إلا متابعا لهم؛ والأخ الحق هو الذي يبدي النصيحة، ولا يغلق باب الشفقة.
**ميلاده:
---------
أبو عبد الله الحسين الشهيد سبط رسول الله الآخر، وغُرَّة السلالة النبوية الشريفةرضي الله عنه ولد 5شعبان سنة 4 هـ.
لما ولد سماه أبوه حربا، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم وسماه حسينا.
وتولى العقيقة عنه بنفسه صلوات الله عليه فعق عن كل واحد من السبطين كبشا.
قالت فاطمة رضي الله عنها: ألا أعق عن ابني بدم؟ قال: لا، ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين والأوفاض. وكان الأوفاض ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجين في المسجد أو في الصفة؛ ففعلت ذلك رضي الله عنها.
***شبهه بالنبي صلى الله عليه وسلم:
-----------------------------------
قال الإمام علي:" كان الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه به ما كان أسفل".
قال أنس رضي الله عنه:<< أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين، فجعل في طست فجعل ينكث ويقول: ما رأيت مثل هذا حسنا.فقلت: أما إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم>>.
**في حجر النبوة:
-----------------
تربى أبو عبد الله الشهيد، مع أخيه أبي محمد الحسن في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كنفه الشريف، يرعاهما في غدوه ورواحه، ويحوطهما تربيته وتهذيبه ،ببصره وبصيرته، فعن يعلى العامري أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعوا إليه، فإذا حسين مع الصبيان يلعب، فاستنتل أمام القوم ، ثم بسط يده فجعل الصبي يفر هاهنا مرة، وهاهنا مرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاحكه، حتى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى تحت قفاه، ثم قنع رأسه، فوضع فاه في فيه فقبله. وقال<<حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط>.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي و الحسن والحسين يثبان على ظهره، فيباعدهما الناس، فقال:"دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هذين".
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة تلو المرة ينوه بحسين، ويرشد الناس إلى سيادته في الدنيا والآخرة.
قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه:" من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين بن علي، فإني سمعت رسول الله يقوله".
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إشارات خصه بها. كما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: جئت النبي عليه السلام يوما، فرأيته كان قد ركب على ظهره، ووضع حبلا في فمه ووضع طرفه في يد الحسين، حتى كان الحسين يسير وهو عليه السلام يسير خلفه على ركبتيه، فلما رأيت هذا قلت:"نعم الجمل جملك يا أبا عبد الله".فقال النبي عليه الصلاة والسلام :"نعم الراكب هو يا عمر".

إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم


كان مولده عليه السلام في ذي الحجة سنة 8 هـ، وسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بولادته كثيراً وولد بالعالية، وكانت قابلته سلمى مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة أبي رافع، فبشر أبو رافع النبي صلى الله عليه وسلم فوهب له عبداً، وحلق شعر إبراهيم يوم سابعه، وسماه، وتصدق بوزنه ورقاً، وأخذوا شعره فد...فنوه.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "ولد لي الليلة ولد فسميته باسم أبي إبراهيم "[رواه الإمام أحمد وغيره].
توفي رضي الله عنه وهو ابن ثمانية عشر شهراً؛ وصلى عليه رسول الله، وقال: ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون، ودفنه بالبقيع.
فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزناً هو أشد من هذا"... "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا". "وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون"...
يروي أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن البراء يقول: قال رسول الله لما مات إبراهيم: "إن له مرضعاً في الجنة".
وكسفت الشمس يوم وفاته رضي الله عنه؛ فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة".
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "لو عاش إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقا نبيا"[مسند الإمام احمد].